يعود "مصري"، بطل الفيلم المصري الكلاسيكي مرّ المذاق، إلى القاهرة بعد عشرين عامًا في أمريكا ليصطدم مجددًا بواقع الحياة اليومية في مصر، كما تصفه فيفيان يي ورانيا خالد في تقريرهما لنيويورك تايمز. لكن أكثر ما يفاجئه هو طلب موظف في مصلحة حكومية منه “شاي بمئة معلقة سكر” لتسهيل إجراءات استخراج جواز السفر — تعبيرًا رمزيًا عن الرشوة. يخيّره الموظف بين “المساعدة” أو “الانتظار بضمير مرتاح في آخر الصف”.

 

تُظهر المشاهد اليومية في القاهرة اليوم أن مشهد الفيلم ما زال واقعيًا، وإن تغيّرت الأرقام. في عام 2010 كانت مئة جنيه تعادل نحو 18 دولارًا، أما اليوم، وبعد سنوات من الانخفاض المتكرر لقيمة العملة والأزمات الاقتصادية المتتالية، فلا تتجاوز قيمتها دولارين.

 

ذكرت نيويورك تايمز أن المصريين يعيشون منذ عام 2022 أزمة اقتصادية خانقة تسببت في تضخم متواصل، بلغ 38 بالمئة في سبتمبر 2023، قبل أن يتراجع إلى 11.7 بالمئة بعد حصول القاهرة على حزم إنقاذ بمليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي والإمارات والاتحاد الأوروبي. لكن الإصلاحات الاقتصادية تمضي ببطء، والمصريون ما زالوا يشعرون بثقل سنوات التقشّف والفقر المتزايد.

 

تقول مارينا كالداس، مديرة تسويق على مواقع التواصل الاجتماعي في القاهرة، إن “التضخم وصل إلى كل شيء، حتى الإكرامية”. تضيف أن المبلغ الذي كان يكفي لشكر عامل أو ممرضة لم يعد يعني شيئًا اليوم. وتروي أن والدها احتاج في مارس إلى علاج للفشل الكلوي في أحد المستشفيات، لكن الممرضات تجاهلن طلباته حتى بدأت هي بإكرامهن، بما يعادل دولارًا يوميًا لكل ممرضة.

 

ثقافة “الإكرامية” في مصر قديمة ومتجذّرة، لكنها اليوم باتت عبئًا إضافيًا. فإلى جانب العاملين في المطاعم وخدمات التوصيل، يتوقع موظفو الاستقبال في العيادات والمستشفيات الحكومية، بل حتى بعض الممرضات، مبالغ صغيرة لإنجاز أبسط المهام. يختلط الامتنان بالاضطرار، وتتلاشى الحدود بين الشكر والرشوة.

 

في طابور تجديد رخصة القيادة، وجدت كالداس نفسها وسط من يدفعون “إكراميات” لتسريع معاملاتهم. رفضت البداية ما رأت أنه فساد صغير، لكنها في النهاية دفعت ألف جنيه لموظف سمح لها بتجاوز الصف — ما يعادل 33 دولارًا حينها، وتقول إن المبلغ اليوم قد يصل إلى 1800 جنيه.

 

يستمر كثير من المصريين في الإكراميات رغم الضائقة المالية، بدافع من الواجب الديني أو التعاطف الإنساني. تقول المعلمة مي محمد صادق إنها تضاعف ما كانت تدفعه سابقًا للعاملين في مواقف السيارات أو المتاجر الصغيرة، “ليس لمجرد الشكر، بل لأنك تعرف كم هو صعب العيش الآن، فتشعر أنك تساعد.” لكنها تعترف بأن الإكراميات أحيانًا تثير الغضب، خصوصًا حين يطالب بها أشخاص لم يقدموا خدمة حقيقية سوى الوقوف في الشارع.

 

الأرقام الرسمية الأخيرة تعود إلى عام 2019 وتشير إلى أن نحو 30 بالمئة من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، لكن الخبراء يرجّحون أن النسبة ارتفعت بعد جائحة كورونا والانكماش الاقتصادي الأخير. وفي الوقت نفسه تقلّص الدولة دعم الخبز والوقود والكهرباء، ما يزيد الضغط على الفئات الأضعف.

 

يرى البعض أن دفع المال الصغير صار “زيت العجلة الصدئة” التي تدور بها الحياة المصرية. يقول عمرو أحمد، فني كمبيوتر يبلغ 55 عامًا، إنه زار عيادة طبية مكتظة هذا العام، فلاحظ وُدّ موظف الاستقبال، و”فهم الرسالة”. دفع له خمسين جنيهًا، أي نحو دولار واحد، ليدخل الطبيب قبل دوره. قبل بضع سنوات، كانت خمس جنيهات تكفي. “تشعر بالحرج أحيانًا لأن المبلغ لم يعد ذا قيمة، لكنك أيضًا تريد أن تكرم الناس بما يستحقونه.”

 

في بلد يعاني من ضعف الأجور وغلاء المعيشة، تتحوّل الإكرامية من لفتة كرم إلى وسيلة بقاء. إنها مرآة لاقتصاد ينهك الطبقة الوسطى ويفرض على الجميع إعادة تعريف معنى “الشكر” — هل هو تضامن إنساني أم مجرد محاولة لتسريع عجلة الحياة البطيئة؟

 

https://www.nytimes.com/2025/11/02/world/middleeast/the-economic-crisis-in-egypt-raises-another-dilemma-tipping.html